عَرَب أوروبا: أرواحٌ مُعذّبة حول مائدة عشاء

لمشاركة المقال

فراسكاتي، إيطاليا | 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2023

أذكر بدقّة عالية اليوم الذي دخلتُ فيه عالم الهجرة اللبنانية. أحفظه كما يحفظ المتزوّجون تاريخ زفافهم. لم يكن هذا التاريخ هو نفسه تاريخ وصولي من زغرتا (شمال لبنان) إلى تولوز في فرنسا. حصل ذلك بعد نحو 6 أشهر. كنتُ مدعوّة مع زوجي إلياس إلى سهرة لطيفة مع مجموعة من اللبنانيين المغتربين، وكانت المرّة الأولى التي ألتقي فيها عددًا من المغتربين دفعة واحدة. قبل ذلك، كنّا نستقبل في بيتنا أصدقاء يزورون فرنسا أو يزورون تولوز بضعة أيّام، لكنّ المغتربين فرادى ليسوا كالمغتربين جماعة.

لم أكن أعرف أنّ هذه المُحادثة العابرة مع مغترب لبنانيّ لا أعرفه ستكون بالنسبة إلي – وليس إليه بالطبع – محطّة في رحلتي التي يبدو أنّها ستكون طويلة مع الاغتراب. كنّا واقفين وجهًا لوجه، فسألته عن عمله، وعمّا إذا كان مهاجرًا جديدًا إلى فرنسا، فأجابني أنّه مغترب منذ أكثر من 20 سنة. قلتُ له عندها إنّني وصلتُ للتو من لبنان.

تحدّثنا عن أشغالنا وأخبرتُه أنّني أعمل كاتبة وصحافية مستقلّة. قال لي عندها إنّه حاول مساعدة أخته على الخروج من لبنان وفقًا لهذه الوضعيّة القانونيّة -أي كعاملة مستقلّة- لكنّ المسار لم ينجح. اقترحتُ عليه بعض الحلول، لعلّها تُفيده باستقدامها إلى فرنسا، لكنّه سارع وطمأنني: "لا لا خلص. غيّرت رأيها ما عاد بدها تهاجر. ركبت طاقة شمسيّة". أدار ظهره وراح يحدّث أشخاصًا آخرين.

جلسنا أمام سفرة لبنانيّة. كنتُ جائعة، وبطبيعة الحال مشتاقة للأكل اللبنانيّ، لكنّني لم أتناول لقمة واحدة، كأن شيئًا ما علق في حلقي. اقتربتُ من إلياس وهمستُ في أذنه: "بدّي قلّك شي"، ثم تابعت: "هيدي طاولة أرواح مُعذّبة". عندما قلتُ له هذه العبارة، سمعتُها أيضًا. سمعتُ نفسي أقولها. قبل ذلك، كنتُ أقولها في رأسي بلا صوت، لكنني عندما قلتها بصوت عالٍ أو بالأحرى همسًا في أذن زوجي، تذكّرتُ حكاية عن بيت مشهور جدًا في محيط بلدتنا الجبلية وعرفتُ لماذا خطرت لي هذه العبارة الشاعرية اللزجة دون سواها.

تقول الحكاية إنّ أرواحًا معذّبة تزور هذا البيت وتعبث به وتحرّك الأغراض وتصدر أصواتًا مرعبة، وأنّها تتحلّق حول طاولة السفرة وتطرق بالملاعق والصحون والطناجر النحاسيّة. البيت في هذه الحكاية مهجور، أي أنه بيت هجره أهله. أمّا الأرواح المعذّبة التي أتحدّث عنها في هذا النصّ، فهي قصة أهل هجروا بيوتهم. أفكّر الآن: ماذا لو سمّينا الأشخاص الذين يعيشون خارج بلادهم "مهجورين" بدلًا من "مهاجرين"؟ أليسوا هم أيضًا متروكين، وحيدين، كالبيت المهجور في محيط بلدتنا الجبلية؟ أليسوا هم أيضًا مشوّشين غير قادرين على نيل السكينة؟

منذ اندلاع الحرب على غزّة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، أفكّر أنّنا لو كنّا لا نزال في تولوز، إلياس وأنا، لكنّا قد فتحنا بيتنا الصغير في وسط المدينة للأصدقاء المعنيّين بما يجري لكي نبكي فيه معًا، لكي لا يبكي كل منّا في شقّته الصغيرة أو يغضب أو يشتم الشاشة وحيدًا. في كلّ مرّة أتحدّث فيها مع أصدقاء من المغتربين اللبنانيين والعرب في أوروبا أو أميركا، يحدّثونني عن مشاعر الوحدة والعزلة التي ترافق الغضب والحزن والعجز أمام مشاهد المجازر التي ترتكبها إسرائيل بحقّ الفلسطينيّين.

لكنّنا لم نعد في تولوز. انتقلنا للعيش في قرية في محيط روما في إيطاليا. عندما أخرج لأمشي فيها، أفكّر في أنّني الوحيدة من بين كلّ الناس حولي التي تملأ رأسها صور الخراب والدماء والأشلاء.

صورة فَورية لمعرض أليس في بلاد العجائب في مدينة بورتو، البرتغال. تصوير أورنيلا عنتر

لا تطوف فوق رأسي ورؤوسهم الغيمة نفسها. مررت في ساحة القرية يوم الأحد الماضي، وكانت بسطات محالّ الخضار والفواكه مغطّاة بورق أبيض يحميها من المطر. للوهلة الأولى، تخيّلتُها أكفانًا، ثم انتبهتُ أنّني الوحيدة في هذه الساحة التي تتخيّل الليمون والتفاح جثثًا. تأكّدتُ مرّة أخرى -ولو لم أعد أبحث أصلًا عن دلائل- أنّنا وحيدون هُنا.

أمشي في القرية التي انتقلنا إليها منذ شهر واحد -أي قبل أيّام من إطلاق عملية "طوفان الأقصى" والعدوان على غزّة- وأقول إنّنا نملك نعمة التنزه في الطبيعة على الأقل. نخرج كلّ يوم مرّة واحدة من البيت للمشي في أرجاء القرية أو لاحتساء فنجان قهوة في أحد مقاهيها أو لشراء الحاجيات. وعندما يسألنا أحدهم عن الحياة في إيطاليا، أفكّر في صور المجازر والخراب التي نشاهدها عبر شاشة اللابتوب والبث المباشر للفضائيات. هذا كلّ ما أعرفه عن الحياة في إيطاليا لغاية اليوم، ثم أنتبه: ماذا نفعل في إيطاليا إذا كنّا منشغلين بأمور لا يبدو أنها تشغل الطليان؟ ألا يجدر بالناس التي تعيش مع بعضها بعضًا أن تنشغل بالأمور نفسها؟

عندما أتعب من التحديق بالشاشة، أنزل إلى ساحة البناية وأجلس على مقعد خشبيّ تحت الشجرة. أفكّر في الأرواح المعذّبة حول مائدة العشاء، كما أفكّر في كلّ الأرواح المعذّبة التي التقيتُها طوال سنوات هجرتي الثلاث. يحزنني السعي الدائم لدى المغتربين لشرح وتبرير أنفسهم، ويحزنني أكثر سعيهم الدائم لإثبات استحقاقهم هذه الفرصة العظيمة التي أتاحها لهم الغرب بفتح أبوابه لهم. حتى الأشخاص الذين عاشوا أكثر من 40 سنة في الاغتراب، وأنجبوا في بلاد الاغتراب أطفالًا أنجبوا بدورهم أطفالًا، لا يزالون يجتهدون ليثبتوا للغربيّين أنّهم استحقّوا تأشيرة الدخول التي مُنحوا إيّاها منذ عقود.

لا يترجم المغتربون أفكارهم فحسب كما كنت أتخيّلهم. كنتُ أتخيّلهم مجرّد مترجمين فوريّين عند أنفسهم، أي أنّهم يفكّرون بالعربيّة وفورًا يترجمون الأفكار إلى اللغة الأجنبية قبل أن يقولوها على مسمع الآخرين، لكنّني انتبهتُ أنّهم يترجمون أرواحهم، كلّ يوم، كلّ الوقت.

في إحدى المرّات، أخبرتني صديقة لي أن زميلتها الفرنسية أخبرت الجميع في المكتب أنّ أمّها صفعتها مرّة واحدة على خدّها عندما كانت مُراهقة. أخبرتهم الحكاية كاملة وضحكت كثيرًا عندما جاءت على ذكر بعض تفاصيل الحادثة. قالت لي صديقتي، معلّقة على ذلك، أنّ من المستحيل أن تحكي قصّة مشابهة لو كانت قد حصلت معها، فهي، بصفتها عربيّة في أوروبا، موصومة أصلًا بالبربريّة، ويُنظر إليها كامرأة مقموعة ومسحوقة وضحيّة للعنف إلى حين إثبات العكس.

قالت لي صديقة أخرى إنّها، في أوروبا، تشعر بأنّها مسؤولة عن الإسلام كلّه. أفصحت لي أنّها تريد أن تغيّر نظرة الغربيّين إلى الإسلام. هذا عمل شاقّ. هذه هي ترجمة الروح: سلسلة لامتناهية من "الفلاتر" والرقابة الذاتية ترافق عمليّة الترجمة من اللغة العربيّة إلى اللغة الأجنبية، لكي تخرج الكلمات كالمياه الصافية المكرّرة، لا تشوبها شائبة، ولا تزعج معدة الغربيّين.

المغترب الجيّد هو المغترب اللا-مرئي، إمّا لأنه يتكوّر على نفسه بحيث يُصبح كذرّة الغُبار: موجودة إنمّا لامرئية، ولا تزعج أحدًا ما دامت منفردة، وإمّا لأنه يكون على سجيّته طوال الوقت، لكنه لا يخرج من قوقعته أصلًا، فلا يراه أحد، لا على سجيّته ولا على سجيّة غيره، وإمّا لأنّه يمعن في محاولات الاندماج، فيصبح شبه منصهر في الجموع، حتّى إذا التقاه أهله لا يعودون يعرفونه. مشكلة الفرضيّة الأخيرة أنّ الاندماج -وهو طبيعي- ليس كالاستفحال بالاندماج، وأنّنا كلما استفحلنا بمحاولة الاندماج، انزلقنا نحو الخضوع.

أعرف لماذا خطرت لي عبارة "الأرواح المعذّبة" دون غيرها. أرواح معذّبة لأنها في حركة دائمة، ولأنها غير مطمئنّة وغير مُستكينة إلى ما هي عليه. أرواح تحاول بشكل مستمرّ أن تثبت حقّها بالوجود، وحقّها تحديدًا بالوجود على أرض هذه القارّة، كضيف ثقيل يعرف أنّه غير مرحّب به، فيحاول أن يعوّض لأهل البيت بإسداء الخدمات لهم: لا يتكلّم إذا لم يتوجّه إليه أحد بالكلام، ويصرّ على أن يجلي الصحون بعد الأكل، وربما أيضًا يلمّع الثريّات. لِمَ لا؟

ديناميكيّة العلاقات بين طرفَين، أيّ طرفين، تتطلّب تموضعًا من الاثنَين: الفَوقيّة التي يتعاطى فيها أحدهم مع الآخر تتطلّب من الآخر هذا قبول التموضع في الخانة المقابلة، أي الدونية. أتابع التغيّر الذي حدث منذ بدء عملية "طوفان الأقصى"، لا سيما فيما يتعلّق بتصويب ديناميكية العلاقات بيننا وبين الغرب، وكأننا نحاول استعادة العلاقة من توازن الفوقيّة-الدونيّة إلى علاقة من الندّ للندّ.

أفكّر في الناشطة رحمة زين في رفح التي واجهت مراسلة قناة سي. إن. إن. على حدود غزّة واستدعتها قائلة: "تعالي وكلّميني كبني آدمة، سمعتك، والآن أنتِ تسمعينني". أفكّر في الـ"أحّا" التي أطلقها الإعلامي المصري باسم يوسف في حديثه إلى المذيع البريطاني بيرس مورجان غير آبه بما إذا كان الغرب سيفهم عليه، وغيرهم كثر ممن توقّفوا عن تطويع خطاباتهم لتناسب الغرب.

أفكّر في أنّنا طوّعنا أنفسنا لوقت طويل، وأنّنا استفقنا. هكذا، بهذه البساطة. أفكّر بشعوري عندما سمعت هذه المقولة في لقاء في تولوز عنوانه "المنفى والعلاج النفسي التحليلي": "كلما استفحلنا في محاولة الاندماج، انزلقنا نحو الخضوع". تلقّى رأسي هذه الجملة كمرهم على الجرح أو كضوء أخضر ليسكن ويرتاح.

.2025 مَجاز، أرشيف مشاعر الناس ©
.جميع الحقوق محفوظة
للاشتراك بالنشرة الإخبارية لمجاز.
info@majazmag.com
 مَجاز مجلة مستقلة تعتمد على قرائها لتمويل إنتاج المحتوى.
لدعم المشروع ماليًا:
patreon/majazmag
magnifiercross