أين رأسي؟

لمشاركة المقال

تولوز، فرنسا | 11 أيلول/سبتمبر 2023

استيقظتُ ظهرًا ولم أجد رأسي. بحثتُ عنه على المنضدة بجانبي لعلّني خلعته قبل النوم لأرتاح منه قليلًا، لكنني لم أجده. بحثت عنه في أرجاء البيت سريعًا بلا نتيجة، ثم قرّرتُ أن أخرج إلى المدينة من دون رأس. قلتُ: "معليش"، أتدبّر أمري.

لم تكن فكرة سديدة. عدتُ إلى البيت سريعًا، ووعدتُ نفسي بألّا أخرج بعد اليوم من البيت من دون رأس. أحتاجه ليعينني على السير في الشوارع، وعلى تقبّل حرارة الشمس، وعلى الاحتكاك بالناس. شعرتُ بأنّني تائهة من دونه، مع أنّني حفظت الشوارع جيّدًا، ولم أعد أحتاج إلى تصفّح الخرائط على هاتفي لأتجوّل في المدينة، لكنّني من دون رأسي أشعر بأنّ ضبابًا يعلو كتفَي.

عدتُ إلى البيت. جلستُ على الكنبة، ورحتُ أنظر حولي. عندما كنت صغيرة، كانت أمّي تقول لي إنني لست شاطرة في التفتيش عن الأشياء؛ ففي كلّ مرّة، عندما كانت تطلب مني أن أحضر لها غرضًا ما من غرفة أُخرى، كنت أقف وسط الغرفة وأبحث عن الغرض بعينيّ كأنّني أنتظر منه أن يجدني. كأنّني أقول له إنّني هنا، حاضرة وظاهرة، ليأتي إليّ.

صحيح أنّني لم أجد رأسي بعدما عدتُ إلى البيت، لكنّني وجدتُ الحقيقة. كعادتها، تعيش الحقائق في البيوت. تخرج منها نادرًا لقضاء حاجة أو اثنتين، ثم تعود فورًا إليها.

من مقعدي على الكنبة، استطعتُ أن أحدّد المكان الوحيد الذي لا جدوى من البحث عن رأسي فيه، لأنه على الأكيد لم يعد هناك: لبنان. لم يعد رأسي في لبنان. هذه هي الحقيقة. في البداية، قلت لنفسي إنّ هذا غير ممكن؛ فالسؤال الأول الذي تطرحه على نفسك عندما تضيع شيئًا هو: "وين آخر مرّة شفته؟"، وأنا، آخر مرّة رأيتُ رأسي، كان في لبنان. أنا متأكّدة من ذلك، لكنّني متأكّدة أيضًا أنّه لم يعد هناك.

عرفتُ ذلك في الليلة السابقة عندما كان رأسي نائمًا. حلمتُ أنّني في بيتنا في البلدة الجبلية – بلدة الصيف. يقع بيتنا في بناية من أربعة طوابق فيها جدّتي وخالاي وأختي وعائلاتهم، وتقع البناية في حارة شعبية قديمة يعيش فيها أقرباء لنا وأصدقاء وجيران. كنت أرغب في العمل، لكنّ الضجّة كانت تمنعني من التركيز.

لغاية هذه اللحظة، يشبه الحلم الحقيقة إلى حدّ التماهي معها، فأنا لم أستطع يومًا العمل في هذا البيت الصيفي. لذلك، كنت ألجأ إلى المقاهي للعمل فيها، لكنّ الجديد في الحلم، أنّني فكّرت في نفسي أنّه ربما يكون صحيحًا، في نهاية الأمر، أنّ المغتربين لا يعودون قادرين على العيش في بلدهم رغم أنّهم كانوا يفعلون ذلك ويتدبّرون أمورهم جيّدًا قبل هجرتهم منه.

في الواقع، أنا أعرف أنّ الضجة في البناية لا تزعجني إلى هذا الحدّ. أحبّ البناية وأحبّ الحارة وبيوتها، ولا أتوقّع منها أن تكون ما ليست عليه. أحبّها حبًّا حقيقيًا، أي أنّني أحبها كما هي، لكنّ المسألة ليست في البناية ولا في الحارة. الأحلام مخبّأة في ثيابها؛ في ثياب النوم.

الحقيقة أنّني في صباح اليوم الذي رأيتُ فيه هذا المنام، استيقظتُ وكان كلّ شيء بخير. كان رأسي لا يزال في لبنان، وكان بالي مطمئنًّا لكون رأسي فيه، إلى أن فتحتُ عينَي وأمسكتُ هاتفي ووقعتُ على بيان الاعتذار الذي كتبه الكوميدي نور الحجّار تحت ضغط التهديد الذي تعرّض له بعدما تمّ نبش نكتة قالها عام 2018، واعتبرها البعض مسيئة إلى الإسلام. في كلّ صباح، أقول لنفسي إنّني لن أطالع هاتفي ومواقع التواصل الاجتماعي فورًا بعد أن أفتح عينيّ، وأنّني سأغسل وجهي وأشرب القهوة قبل أن أفكّر حتى في أن ألمس الهاتف، لكنّني لا أقوم بذلك.

كنت أعرفُ في رأسي –الذي لم أجده لغاية هذه اللحظة– أنّ البناية التي لم أعد أعرف كيف أعيش فيها هي لبنان الذي يُضطر فيه كوميدي إلى أن يعتذر عن نكتة قالها منذ أكثر من 5 سنوات لكي يحمي نفسه وعائلته من الأذى.

عشتُ يومًا كاملًا حزينة بسبب هذا المنام، وبسبب لاوعيي. كنت أتمنّى لو لم يكن لاوعيي واعيًا إلى هذه الدرجة. أفضّله كما يُفترض به أن يكون: غير واعٍ. أركل إليه بطرف رجلي كل الأسئلة والمسائل والرسائل والبيانات التي توجع قلبي، وأدفنها فيه عشر سنوات مثلًا، قبل أن تعود وتركلني من حيث لا أدري، لكنّني، على الأقل، أكون قد أجّلتها سنوات طويلة قد لا أعيش حتى لأراها، لكنّني مع لاوعيي الواعي هذا أضطر إلى مواجهة تبعات الحوادث في اليوم التالي لحدوثها، كأنْ لا أشغال أخرى لديّ ولا حياة يومية.

ليست الحملة التي تعرّض لها نور الحجّار، والتي دفعته -مرغمًا أعتقد- إلى الاعتذار هي المسألة الوحيدة التي تجعل لبنان بلدًا يصعب العيش فيه –أعرف ذلك تمامًا ولا أرمنس البلد لأنني أعيش خارجه– لكنّها الوحيدة التي تجعله بالنسبة إليَّ أنا شخصيًا مخيفًا. لا تخيفني العتمة إذا انقطعت الكهرباء، لكنّ الاعتداء الذي تعرّض له رواد حانة "مدام أوم" يخيفني.

كنت أقول في نفسي إنّني قادرة على التكيّف مع كل أشكال الأزمة، كما تكيّفت معها لسنتَين قبل مغادرة البلد، ولنحو 28 سنة إذا ما اعتبرنا أن الانهيار ليس مستجدًّا، لكنّني أخاف من أن تضيق الفسحة التي يحق لنا ضمنها التعبير عن أنفسنا بحرية. أحلم مرّات بالعودة إلى لبنان، وأقول إننا سنتدبّر أمرنا مثلنا مثل غيرنا، لكنّ رأسي لم يعد في لبنان.

أعرف ذلك لأنني، وأنا مُقبلة على مغادرة فرنسا -بلد هجرتي الأولى- أشعر بأنّ هذا الرحيل يوجعني قليلًا. كنت أفكّر في أنّ رحيلي من لبنان هو الرحيل الذي طبع حياتي، وأنّني، إذا كنتُ قادرة عليه، فهذا يعني أنّني قادرة على مغادرة أيّ مكان آخر في العالم. كنت أعتقد أيضًا أنه لا يهمني بتاتًا في أيّ بلد أعيش ما دامت هذه البلدان كلها ليست لبنان، لكنّ تولوز؛ المدينة الفرنسية التي أسكن فيها منذ نحو 3 سنوات، أصبحت هي أيضًا مكانًا مألوفًا لي، وأنا أحبّ الأماكن المألوفة، وسحرها يشتغل شغله بي من دون الحاجة للّجوء إلى حيلة.

رأسي لم يعد في لبنان إذًا. أعتقد أنّه سوف يصبح معي قريبًا، هنا، حيث أكون، وأنّني من تلك اللحظة وصاعدًا سوف آخذه معي أينما أذهب. هكذا، يطمئن رأسي إليه.

.2025 مَجاز، أرشيف مشاعر الناس ©
.جميع الحقوق محفوظة
للاشتراك بالنشرة الإخبارية لمجاز.
info@majazmag.com
 مَجاز مجلة مستقلة تعتمد على قرائها لتمويل إنتاج المحتوى.
لدعم المشروع ماليًا:
patreon/majazmag
magnifiercross